كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ} الآية 34 من من سورة القمر المارة، والسحر آخر الليل وأشده ظلمة، وأصل القطع القطعة من الشيء، لذلك قال ابن عباس طائفة من الليل، وقال قتادة بعد صدر منه {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} وراءه وضمير منكم يعود على أهله، وقوله لا يلتفت من تسمية النوع وهو من بديع النكات، إذ أن المتأخرين من أهل البديع زعموا أنهم اخترعوا نوعا من البديع لم يكن قبل وسمّوه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام:
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمعت بها في يوم بينهم ويتبجحوا في ذلك ولم يعلموا وجوده في كتاب اللّه الذي لم يغفل شيئا في مثل هذه الآية، وإن علومهم وعلوم من تقدمهم مستقاة من هذا القرآن العظيم الذي يقول اللّه تعالى فيه: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} الآية 38 من الأنعام الآتية فلم يترك شيئا من أفعال وأعمال الأولين والآخرين، قال الأبوصيري رحمه اللّه:
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ** عن المعاد وعن عاد وعن ارم

فلا تعد ولا تحصى عجائبها ** ولا تسام على الإكثار بالسأم

ثم استثنى من أهله عليه السلام فقال: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالنصب على الاستثناء المتصل من أهلك، وبالرفع على البدلية من أحد، أي اتركها لا تأخذها معك {إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ} من العذاب فهي هالكة معهم لرضائها بفعلهم، فلم تمنعهم ولم تزجرهم وكانت تخبرهم بمن يأتي عنده، حتى إنها أخبرتهم بحضور الملائكة ظنا منها أنهم بشر، ولم يروهم حين مجيئهم، وذلك لأنهم لا يمشون مشي البشر، إذ يصلون إلى المحل الذي يريدونه بلحظة، فلا يحس إلا وهم أمام من يقصدونه، قال لوط متى ينزل فيهم العذاب قالوا له {إِنَّمَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} قال لهم أريد أسرع من ذلك قالوا له إن الوقت المقدر لإهلاكهم هو الصبح {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ 81} ولم يكن بيننا وبينه إلا هذا الليل المضل، وقرئ الصبح بضم الباء، وعي لغة جائزة لأنها ليست بحركة إعراب، أما حركة الإعراب كحركة الميم في أنلزمكموها وأضرابها فلا يجوز فيها الإسكان بداعي الخفة إلا ضرورة كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من اللّه ولا واغل

بإسكان الباء من أشرب للخفة ضرورة، وقول الآخر:
وناع يخبرنا بمهلك سيد ** تقطع من وجد عليه الأنامل

بإسكان باء يخبرنا، أما الإسكان لتوالي الحركات فقد أجازه بعضهم بلا ضرورة مثل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} الآية 58 من سورة النساء، وأمثال كثير، وكان سيبويه يخفف الحركة ويختلها، قالوا وهو الحق، ولما دخل الليل تهيأ لوط وهيأ أهله، ثم أخذهم وترك زوجته، وأوصاهم بعدم الالتفات وراءهم، امتثالا للأمر قال تعالى: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا} حان وقته بعذابهم {جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها} إذ أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قراهم الخمس، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء، وهم نائمون لم ينتبه أحد منهم ولم يكفأ لهم إناء وقلبها بهم، فسمعت امرأته وهي لا حقة بلوط وأهله راكضة خلفهم (هوة العذاب) الهوة صوت انهدام الجدار هنا صوت انقلاب القرى، فالتفتت ورافعا فهلكت، وهذه الحكمة من منعهم من الالتفات إلى الوراء، إذ قدر اللّه إهلاك من يلتفت منهم وراءه، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْها} أي القرى المقوبة {حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} حتى لا يبقى منهم أحد ممن كان سارجا عن القرى وآتيا إليها، فمن شذ عنها فلم يهلك بالخسف هلك بالحجارة مثل امرأة لوط المار ذكرها، ومعنى سجيل الطين لقوله تعالى في الآية 33 من الذاريات: {حِجارَةً مِنْ طِينٍ} والقرآن يفسر بعضه وفي الفارسية أصلها سنك، راجع الآية 82 من الشعراء المارة، وهذه كالسندس والإستبرق وغيرها.
فإنها كلمات عربية استعملها الغير، لأن العرب نطقت بها قبل القرآن {مَنْضُودٍ 82} متتابع نعت لسجيل مأخوذ من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض فعلا، أو كون بعضه فوق بعض خلقة، مثله في قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الآية 29 في الواقعة المارة {مُسَوَّمَةً} نعت ثان أي معلمة بعلامة العذاب لا تشبه حجارة الدنيا، قالوا كان مكتوبا على كل واحدة منها اسم من تهلكه، ولا عجب لأنها {عِنْدَ رَبِّكَ} القادر على كل شيء وهي من جملة ما في خزائنه التي لا يطلع على ما فيها ولا يملكها غيره، أو أنها ساقطة من لدنه من مكان لا يعلمه غيره، وضمير الخطاب هذا يعود إلى سيد المخاطبين على طريق الالتفات وتقدمت القصة مفصلة في الآية 84 من الأعراف المارة، ولهذا قال تعالى: {وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ 83} أي من قومك يا محمد المتغالين في الظلم، بل هي قريبة منهم إذا أصروا على ظلمهم ولا شك أنا نوقع بهم ما أوقعناه بغيرهم من العذاب، وفي الآية تهديد لكل ظالم لأن الذي أهلك اللّه به شذاذ قوم لوط من الحجارة لا يبعد أن يرمي العرب أهل الظلم كافة، قال تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا} تقدم نسبه بالأعراف {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} في سعة من الرزق موسرين غير محتاجين لأكل أموال الناس باطلا بالخلسة {وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ 84} بكم وباله لا يترك منكم أحدا، ويبدل اللّه خصبكم قحطا، وسعتكم ضيقا، ورخصكم غلاء، فيسلب نعمكم كلها ويحل بكم نقمه إن لم تتوبوا من عملكم هذا، وذكرنا في الآية 85 من الأعراف أن مدين أحد أولاد إبراهيم عليه السلام، وأنه بنى المدينة هذه فسمّاها باسمه، والمراد أهلها، ثم أكد عليهم بما يزيد في زجرهم بقوله: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} العدل، بتقويم لسان الميزان ومكانه وتسوية المكيال من كل أطرافه، وفائدة التصريح بالأمر بالإيفاء مع أن النهي الوارد في الآية السابقة يستلزمه، لأن النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو مستلزم له تضمنا أو التزاما، لأن الخلاف بمقتضى اللفظ، لا أن التحريم والوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ.
النعي بما كانوا عليه من القبح وهو النقص مبالغته بالكسف، ثم الأمر بالضد مبالغته في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكفر عكسا، وتقييده بالقسط يفيد أن الفضل الزائد يكون محرمّا أيضا كالنقص، لأن النقص سرفة من المشتري والزيادة سرفة من البائع، وهذا ما هو واقع ببعض بلادنا، ولا مانع ولا وازع، لأن من الكيالين والملتزمين للباحات التي يباع بها الحبوب وغيرها يفعلون ذلك على علم ومرأى من الحكومة، فنسأل اللّه أن يبصّر المؤمنين بعيوبهم ويرشدهم للسداد والصواب في كل أمورهم {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} أي لا تنقصوا أموالهم، وفيه معنى التكرار لما سبق أيضا تحذيرا من عاقبة الأمر ومبالغة بالتأكيد، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به، فكيف إذا كان ثلاثا {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 85} وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي.
واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها، لأن معناه مطلق الفساد، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته، مشين لهم، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم، ولهذا يقول: {بَقِيَّتُ اللَّهِ} التي أبقاها لكم من الحلال في الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة {خَيْرٌ لَكُمْ} مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 86} باللّه المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 87} لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن، لأن اللّه نهانا عن ذلك، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها، لأن ذلك كله بيد اللّه وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها {قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك.
هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك، كيف وهو خطيب الأنبياء، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق، ومن هنا قوله صلى اللّه عليه وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلا بعدا.
لأن اللّه تعالى يقول: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} الآية 25 من العنكبوت الآتية، أي أن صلاتك هذه تأمرك {أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} من الأوثان {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا} من النقص والزيادة {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ 88} في زعمك وزعم أصحابك فلما ذا ابتدعت هذا علينا فلو كنت كذلك لما كان يجوز لك أن تشق عصا قومك، ولا يجدر بك أن تخالفهم وتسفه عاداتهم.
هذا إذا كان وصفهم له بتلك الصفتين على الحقيقة، وإذا كانوا يريدون الاستهزاء فيكون المراد ضدهما أي السفيه الضال الغاوي، لأن العرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ سليم، وللأعمى بصير، وللفلاة المهلكة مفازة، وهكذا {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} تقدم مثلها {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} حلالا بفضله ورحمته من غير نجس وتطفيف، وكان عليه السلام كثير النعم كثير الخير، وفي هذه الجملة معنى الاستفهام، أي إذا كنت كذلك فهل يمكن أن أخالف أمره وأوافق هواكم وأكتم عليكم ما أمرني به ربي أن أبلغه إليكم كلا لا أقصد ذلك {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} فاسبقكم لفعله وأستبد به دونكم مع اعترافكم بكمال عقلي وحسن سجيّتي وإني أختار لكم ما أختاره لنفسي وأنهاكم عما أنزه نفسي عن اقترافه ولا أفعل شيئا قط وأنا أنهى عنه إذ لا يليق بالرجل ذلك، وعليه قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

{إِنْ أُرِيدُ} لا أريد قط فيما آمركم به وأنهاكم عنه شيئا {إِلَّا الْإِصْلاحَ} لكم بنصحي وموعظني فيما بيني وبينكم وبين ربي وربكم {مَا اسْتَطَعْتُ} من جهدي وما دمت متمكنّا من الإصلاح فإني لا آلو فيه جهدا، وسأبدل قصارى وسعي برشدكم وهدايتكم من غير إبصار ولا إكراه.
هذا واعلم أن شأن هذه الأجوبة الثلاثة المبينة على مراعاة حقوق ثلاثة مطلوبة لكل من يأمر وينهى، فالأول حق اللّه تعالى، والثاني حق النفس، والثالث حق الناس، تدبر قوله البالغ ذروة المعنى والبلاغة وقمة الفقه والفصاحة {وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} لا أفعل شيئا أو أتركه إلا بمعونة اللّه وتأييده، لأنه هو الموفق لطرق الخير والطاعة واجتناب سبل الشر والعصيان، والتوفيق تسهيل اللّه تعالى على عبده ما يعسر عليه وتيسير ما يصعب {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري كلها {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ 89} أرجع خاضعا خاشعا إليه فيما ينزل بي من الخير فأحمده عليه، ومن الشر فألجا إليه في دفعه، وقد طلب عليه السلام التوفيق من ربه لإصابة الحق فيما يأتي ويذر والاستعانة به على مجامع أمره، مظهرا بهذا عدم مبالاته بكفار قومه مهما قالوا أو فعلوا، ثم كر على قومه فقال: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يوقعنكم في الجزم ويكسبنكم إياه {شِقاقِي} خلافي معكم وتحملكم عداوتي لأجل خيركم {أَنْ يُصِيبَكُمْ} بسببه عذاب عاجل في هذه الدنيا جزاء كفركم وفعلكم السيء فيحل بكم {مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الإهلاك غرقا {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من التدمير بالريح العاصف {أَوْ قَوْمَ صالِحٍ} من الموت بالصيحة {وَما قَوْمُ لُوطٍ} الذين أهلكوا بالخسف والرجم بالحجارة {مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ 90} لقرب عهد إهلاكهم منكم وهم جيرانكم بالسكن، وقد حل بهم ما لم يحل بغيرهم، كما أن جرمهم لم يقترفه غيرهم، فاتعظوابهم {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} تقدم مثله {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بعباده إذا تابوا وأنابوا {وَدُودٌ 90} بهم كثير الرأفة والمحبة لإيمانهم به ليكونوا قريبين منه {قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} لأن اللّه أصمهم وأعمى أبصارهم عن سماع الحق ورؤيته، وإلا فهل يوجد أنصح كلاما مما خاطبهم به وأبلغ معنى في النفس، وهو أحسن الخلق مراجعة إلى قومه، ولكن قولهم هذا والعياذ باللّه من الطبع على القلب والختم على الفؤاد، ومن يضلل اللّه فما له من هاد، وانظر لسخافة قولهم: {وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا} يتعذر عليك منعنا مما نحن عليه لكبر سنك وضعف بصرك، وإذا أردنا أن نوقع فيك مكروها فلا تقدر على صدنا منه ولكنّا نحترمك لأجل عشيرتك ولم يقولوا للّه الذي أرسلك، قاتلهم اللّه، لأنهم ينظرون إلى ظاهر الدنيا، وهو عليه السلام كان قويا في عشيرته ولهذا قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ} بالحجارة حتى تموت {وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ 92} بعد أن أهنتنا وأهنت ديننا فلا نحترمك ولا نكرمك، وقتلك علينا هين، وما قيل إن المراد بعزيز كونه أعمى لا يصح في المعنى، ونحن ذكرنا في قصته في الآية 85 من سورة الأعراف المارة أن القول بعماه لا صحة له، لأن اللّه لم يبعث نبيا أعمى ولا من به زمانة، ولهذا البحث صلة في الآية 84 من سورة يوسف الآتية {قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي} جماعتي وعشيرتي {أَعَزُّ عَلَيْكُمْ} أهيب وأمنع {مِنَ اللَّهِ} فتكرموني لعزّتهم ولا تكرموني لأجل اللّه الذي خلقكم ورزقكم {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} كالشيء الملقى إلى الوراء مثل قدح الراكب، لا تلتفتوا إليه إلا عند الحاجة {إِنَّ رَبِّي} الذي نبذتموه خلفكم ونسيتموه {بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 93} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم الظاهرة والباطنة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم، لأنهم راعوا جانب الرهط ولم يراعوا جناب اللّه، ولم يعلموا أنه سيعاقبهم على ذلك، ثم أكّد التهديد بوعيد أشدّ منه فقال: {وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ}
وقدرتكم مما تنوونه لي من الشر من كل ما تتمكنون عليه {إِنِّي عامِلٌ} ما أتمكن عليه بقدر ما يؤيدني به اللّه من النصر ويمكنني من القدرة، فابذلوا أنتم غاية جهدكم في شقاقي وأقصى طاقتكم في عدواني وإني لا أزال أثابر على عمل الخير لكم وترغيبكم لطاعته لعلكم تتنبهون فترجعون إليه، وإن أصررتم فمصيركم إليه يوم القيامة وهناك {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ} أنا أم أنتم {وَارْتَقِبُوا} نزول العذاب بكم فقد قرب أوانه {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ 94} لنزوله منتظر عاقبة أمركم وما يحل بكم من الذلة والإهانة مترقب نتيجة وعيدي لكم ونصرتي عليكم، قال تعالى: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا} المحتوم المقدر لنزول العذاب فيهم وانتهى أمد إمهالهم للإيمان {نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} وفضل، لأن عادتنا إنجاء المؤمنين ونصرتهم {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} من أحد ملائكة اللّه العظام جبريل أو غيره كإسرافيل وميكائيل لأن هؤلاء هم الموكلون بتنفيذ مهام الأمور وعظائمها بأمر اللّه تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ 95} على ركبهم من هول سماعها، فماتوا جميعا حالة كونهم لا طين في الأرض ملازمين لها في أمكنتهم التي كانوا عليها حين الصيحة، لأنها أماتتهم حالّا بحيث لم يتحرك أحد من مكانه لهول الصيحة {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها} في قرية مدين ولم يسكنوها ولم يعمروها وصاروا نسيا منسيا.
فتنبهوا أيها الكفرة وسارعوا بالتوبة إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حلّ بهم {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} قوم شعيب وسحقا لهم {كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ 96} قوم صالح لأنهم أهلكوا بالصيحة أيضا مثلهم ولم تعذب أمتان بعذاب واحد غيرهما إلا أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب من فوقهم، وما قيل إن الصيحة نوع من العذاب، لأن العرب تقول صاح بهم الزمان إذا هلكوا، مستدلين بقول امرئ القيس:
فدع نهبا صيح في حجرته ولكن ** حديث ما حديث الرواحل

ليس بسديد لما فيه من صرف الكلام عن ظاهره دون مبرر ولمنافاته لما جاء في سورة الأعراف بلفظ الرجفة الحاصلة لهم من خوف الصيحة راجع الآية 91 منها، وبعدت قرئت بضم العين كما في الآية، وقرئت بالكسر، وعليه قوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ** وأين مكان البعد إلا مكانيا

من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ومعناها على كلا القراءتين الهلاك، والقصة مفصلة في الآية 93 من الأعراف، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ 97} سميت الحجج والبراهين سلطانا لأن صاحبها يقهر من لا شئ له منها، كالسلطان بالنسبة لرعيته {إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ} لإرشادهم وهدايتهم باتباعه، ولكنهم لم يلتفتوا إليه {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} الطاغية وكيف يتبعونه وينقادون لأمره {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ 98} لأنه ضال وكافر وأمره ضلال وكفر غير محمود العاقبة لأنه لا يدعو إلى هدى وسترونه {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} إلى النار {يَوْمَ الْقِيامَةِ} وهم وراءه {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أدخلهم فيها لأنه كما كان أمامهم في الضلال في الدنيا حتى أغرقهم في البحر يكون أمامهم في الآخرة حتى يدخلهم جهنم {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ 99} النار لأن القصد من الورد تسكين ألم العطش والنار ضده فاستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة، لأنه شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردين إلى الماء وأتباعه بالواردين والماء بالنار والعياذ باللّه، {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً} طردا وبعدا من الرحمة {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} لعنة أخرى أفظع من لعنة الدنيا وسيقال لهم {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ 100} العون المعان بترادف اللغتين لأن كل شيء جعلته عونا لآخر وأسندت به شيئا فقد ردفته، ولهذا اخترنا تأويل الرفد بالعون على تفسيره بالبطاء الذي هو من معناه أيضا لملاءمة المقام، إذ لكل مقام مقال: {ذلِكَ} الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل من أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام مع أقوامهم، وكيفية إهلاكهم لما أصروا على كفرهم ولم يطيعوهم كله {مِنْ أَنْباءِ الْقُرى} السابقة {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} لتخبر به قومك فينتبهوا من غفلتهم ويتعظوا بما حل بهم علهم يرجعوا عن غبهم، ولتسلي نفسك وتتأسى بما تأسى به إخوانك الأنبياء قبلك، لئلا يضيق صدرك مما يجابهونك به، ولتعلمهم أنهم إذا لم يؤمنوا ويرجعوا إلى اللّه فيصيبهم ما أصابهم من العذاب، وما عليك إلا أن تحذرهم سوء العاقبة وتذكر لهم أحوال أسلافهم وآثارهم {مِنْها} أي القرى المهلك أهلها أثرها {قائِمٌ} لم يزل إذ أن قسما من بنائها باق وجدران أكثرها قائمة واقفة على حالها {وَحَصِيدٌ 101} ومنها خراب مندثر محي أثرها بالكلية لطول الزمن على تركها بلا سكن، كالأرض المحصود زرعها التي كأنها لم تزرع قبل، وأطلقت العرب لفظ الحصيد على الفناء كما قيل:
والناس في قسم المنية بينهم ** كالزرع منه قائم وحصيد

قال تعالى: {وَما ظَلَمْناهُمْ} بما أوقعنا فيهم من العذاب المهلك {وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بإصرارهم على الكفر ورفض نصح الرسل حتى ماتوا مشركين باللّه كفّارا منكري الآخرة {فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} أوثانهم {الَّتِي يَدْعُونَ} يعبدونها ويستغيثون بها عند المحن ويرجون نصرتها {مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ولم ترد بأسه عنهم في الدنيا {لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} بإهلاكهم {وَما زادُوهُمْ} في الآخرة عند استشفاعهم بهم {غَيْرَ تَتْبِيبٍ 102} تدمير وتخسير وتب بمعنى خسر وتبّه غيره أوقعه في الخسران، أي أن عبادتهم للأصنام فضلا عن أنهم لم تفدهم شيئا فقد أهلكتهم فوق إهلاكهم حتى دمّروا تدميرا، قال بشر ابن أبي حاتم:
هم جدعوا الألوف فأذهبوه ** وهم تركوا بني سعد تبابا

{وَكَذلِكَ} مثل ذلك الأحد العظيم: {أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ} حالة كون أهلها كافرين عتاة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ 103} كما علمت من كيبة أخذ الأمم لكذبة لرسلها، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته:
ثم قرأ هذه لآية.
وحكم هذه الآية عام في كل ظالم إلى يوم القيامة، ألا فليحذر الظالمون هذه العاقبة السيئة ويتداركوا أنفسهم بالتوبة وإرجاع المظالم إلى أهلها، كي لا يعرضوا أنفسهم لغضب اللّه فيدخلوا في هذا الوعيد الشديد المؤلم {إِنَّ فِي ذلِكَ} الأخذ والإهلاك {لَآيَةً} عظيمة وعبرة كبيرة {لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ} لأنه إذا علم ما وقع في الدنيا على المجرمين اتعظ وعمل لما يقي نفسه من مثله، ومن العذاب الأخروي المعد لهم الذي لا يقاس بعذاب الدنيا، لأنه بالنسبة لعذاب الآخرة قليل من كثير {ذلِكَ} اليوم الذي يكون فيه عذاب الآخرة {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} لأجل الحساب أولهم وآخرهم برهم وفاجرهم {وَذلِكَ} اليوم العظيم {يَوْمٌ مَشْهُودٌ 104} فيه أنواع العذاب مما لا تطيقه الصنم الرّواسي ومن أنواع النعيم ما تبتهج به النفوس وكل منهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمعنى كثر شاهدو ذلك اليوم فحذف الجار وصار المجرور مفصولا على التوسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به لأن الضمير لا يجوز نصبة على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه فيكون من باب الحذف ولإبصال وهو كثير في كلام العرب ويكون في الاسم كمشترك وفي الفعل كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا ** قليل سوى طعن الدراك نوافله

وفي رواية النهال بدل الدراك أي مشترك فيه وشهدنا فيه، والمعنى أن الخلائق كلهم يشاهدون ذلك الموقف المهول ليس أهل الأرضين فقط بل أهل السموات جميعهم أيضا {وَما نُؤَخِّرُهُ} أي ذلك اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلهم {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ 105} سنبينه وشهوره وأيامه ولحظاته كما هو في علمنا لا يطلع عليه أحد {يَوْمَ يَأْتِ} أجل ذلك اليوم بانتهاء الأمد المضروب له عند اللّه الذي لا يتخطاه.